كان شيئاً ما بداخلها
يدفعها دفعا نحو تلك الحقيبة السوداء ، وبعدما تأكدت من نوم كل من بالبيت أصبح الإلحاح أقوى ، حرصت على ألا
تخبرهم بشئ رفقاً بهم ، فأن تعيش وانت لا تعرف خيرا من أن
تعرف فلا تعيش ، ساقت قدميها نحو الحقيبة وفتحتها وأخرجت منها عباءة
سوداء وبنطال جينز وشال فلسطيني وحمالة صدر زرقاء
أصابها ذعر كمن فتح مقبرة جسد مات منذ سنين ، سحبت العباءة من الشنطة ببطئ وفردتها على الأرض وضعت
فوقها من أعلى حمالة الصدر ومن أسفل وضعت البنطال .. إبتعدت عن العباءة وتكومت في إحدى زوايا الغرفة ، ظلت تنظر
نحوها من بعيد وكأنها جثة حقيقية ملقاة أمامها على قارعة الطريق
إنهالت عليها
الذكريات كما تنهال السهام في مسابقات الرماية ، انفجار قنابل الغاز ، صرخات
الرجال والنساء ، رائحة الغاز المسيل للدموع ، صوت الأنين ، أنين المصابين وأنينها
المكتوم ، وجع لا ينتهي ، وجع الفضيحة ، وجع الظلم ، وجع البلاد
17 ديسمبر 2011 ،
تاريخ الحادثة أم تاريخ الوفاة؟ توقفت الحياة عند تلك اللحظة وكأنها لحظة وفاة الأمل
وتشييعه ودفنه
كانت تجري هربا من
جيش النظام الذي لفظها كما لفظ جيلها بأكمله ، لم تستطع مواصلة الجري ، سقطت ،
سُحلت ، ضُربت ، رُكلت ، تكشف جسدها أمام كاميرات العالم لينكشف وجه النظام القبيح
عام مضى ، كيف مضى؟
بل كيف مرت الدقائق والثواني؟ عام ذهب فحسب ، تسمع أصوات الفرحين بنجاح مرشحهم
للرئاسة ، صوت رئيس الجمهورية وهو يحلف اليمين فور فوزه وشكره للجيش وأعضاء المجلس
الأعلى للقوات المسلحة وئيسه على مجهودهم العظيم في حماية البلاد ، قلادة النيل ، القاضي يعلن البراءة
والأهالي تصرخ
لم تدرك انها ظلت فريسة لأنياب الذكريات لساعات متواصلة إلا عندما سمعت صوت آذان الفجر فقامت وتوضأت ووقفت أمام رب العالمين تصلي
تقرأ: الحمد لله رب
العالمين ، ثم تسمع صوت: ألا تخجلون من تجريد الفتيات من ملابسهن .. يا واد يا مؤمن ، خلاص المنتقبة بقت ثورية دلوقتي؟ يا نصابين .. تطرد الأصوات كأنها ذباب مزعج تُبعده عنها
تركع: سبحان ربيّ
الأعلى ، ايه اللى وداها هناك؟ في واحدة محترمة تلبس عباية على العريّ؟
تسجد: سبحان ربيّ
العظيم ، تشعر بمرارة في حلقها تزداد كأنها حبل يلتف حول رقبتها ليقتلها
تشرع في الركعة
الثانية: إياك نعبدُ وإياك نستعين ، صوت قنبلة الغاز يرج قلبها ، تغمض عيناها حتى
تركز في الصلاة فلا تستطيع .. كلما أغمضت رأت نفسها عارية والشياطين السوداء تهجم
عليها وتعذبها .. تسرع في فتح عينها لتبعد تلك الصورة التي لا تفارقها ، بكت ..
كم بكت ! ، ختمت الصلاة ومسحت دموعها ودعت .. كم دعت !